عرفتُ “إبراهيمَ”، جاريَ العزيزَ، من زمانٍ، عرفتُه بئرًا يفيض ماؤُها وسائرُ البشرْ تمرُّ لا تشرب منها، لا ولا ترمي بها، ترمي بها حجرْ. “لو كان لي أن أنشر الجبينَ في سارية الضياءِ من جديدٍ”، يقول إبراهيمُ في وُريقةٍ مخضوبةٍ بدمّه الطليلِ، “تُرى، يُحوّلُ الغديرُ سيرَه كأنْ تبرعم الغصونُ في الخريف أو ينعقد الثمرْ، ويطلع النباتُ في الحجرْ؟” *** “لو كان لي، لو كان أن أموتَ أن أعيش من جديد، أتبسطُ السماءُ وجهَها، فلا تمزّق العقبانُ في الفلاةِ قوافلَ الضحايا؟ أتضحك المعاملُ الدخانُ؟ أتسكتُ الضوضاءُ في الحقولِ، في الشارع الكبيرِ؟ أيأْكل الفقيرُ خبزَ يومهِ بعرق الجبينِ، بعرق الجبينِ لا بدمعة الذليلِ؟” *** “لو كان لي أن أنشر الجبينَ في سارية الضياءِ، لو كان لي البقاءُ، تُرى، يعود يولسيسُ؟ والولدُ العقوقُ، والخروفُ، والخاطئُ الأُصيبَ بالعمى لِيُبصرَ الطريقا؟” وحين صوَّب العدوُّ مدفعَ الردى واندفع الجنودُ تحت وابلٍ من الرصاص والردى، صِيح بهم: “تقهقروا. تقهقروا. في الملجأ الوراءِ مأْمنٌ من الرصاص والردى.” لكن “إبراهيمَ” ظلّ سائرًا، إلى الأمام سائرًا، وصدرُه الصغيرُ يملأ المدى ! “تقهقروا. تقهقروا. في الملجأ الوراءِ مأمنٌ منَ الرصاصِ والردى!” لكنَّ إبراهيمَ ظلّ سائرًا كأنه لم يسمعِ الصدى. *** وقيل إنه الجنونُ. لعله الجنونُ. لكنِّي عرفتُ جاريَ العزيزَ من زمانٍ، من زمن الصِّغَرْ عرفته بئرًا يفيض ماؤُها، وسائرُ البشرْ تمرُّ لا تشربُ منها، لا ولا ترمي بها، ترمي بها حجرْ.