(1)
هذا هو أنت ،
فضاء يبدأ من ذاكرة يحتلُّ مساكنها الجند،
وفنجان القهوة ليل منسرح وحدود ،
تأخذ في الضيق من الأفق إلى العنق ،
فيا من تقرأ كرّاس المدَّثر ، ما تنذر،
فالساعة تقترب من الرابعة مساء،
وجوادك لا يصهل ،
تدخل امرأة كالرمح،
ورجل كجريد النخل الظامىء،
يحتلان الزاوية أمامك ،
ترسم فوق بياض الصحن شموسا دانية ،
وصحيفتك الأسبوعية ملقاة في تعب فوق الطاولة،
الرابعة مساء ...
شجر يتسلَّل نحو الداخل ، لم تأت ..
بريد الأيام تأخر ،
أسراب نوارس بيضاء تحوَّم في أفق دام ،
لم تأت .. عرائش ليلكة،
وقميص أخضر مفتوح الصدر ،
وشال حرير، لم تأت ..
الرابعة مساء،
ووضوح بحريًّ، يشرق عبر تضاريس الوجه،
بسيط كرغيف الخبر،
أليف كالموّال،
خططت على ورق أصفر همّا مرتعشا ..
كظلال مصابيح الشارع في ليلة ريح ،
هما كالحجر الهامس يقفز بين يديَّ رشيقا
وطفوليا،
لم تأت إلى موعدها الأول ،
في هذا اليوم الأول ،
من معزوفة ما يأتي ،
سأرنّم للحجر المعزول ترانيم البعل الغائب ،
كي أطرد وحشة هذا النهر ،
وأنهر خوفي،
وأنادي لطيورالحقل لتعزف لي
باسم سنابل صيف وهَّاج ،
كيف أحيط نسيمك بسياج،
كيف أجفّف ثوبي في وضح الشمس ،
وأخرج في عريَّ الصحراء العربيَّة ،
فإذا مرَّت مركبة الغيد،
فكيف أردُّ نوافذ صدري
كيف أحدُّ المدَّ،
وهذا الجيشان الممتدَّ..
من الطعنة حتى اللعنة ..كيف؟!
وإمّا درجت في شارع بسمان مواكبها المزدانة،
بالليلك والريحان..
سأرفع كوفية وعقال أبي في أدب مجروح،
وأشبّب في حاشية الوديان،
على مدَّ تلال الرعشة والآه:
أحلّفكن نساء مدينتنا أن تتمهلن ،
أحلّفكن بكل عزيز أن تتمهلن ،
أحلّفكن بأيام اللهفة والرجفة أن تتمهلن ،
أحلّفكن جميعا ..
بمرايا وحدتكن الموحشة بلا ضوء أن تتمهلن،
ستفتح بوّابة أضلاعي الآن،
بحربة عمَّان ،
ويخرج صوتي متَّشحا بأغاني التوت البريَّ ،
يموَّج بين فروع الأشجار الغافية ،
يراودها عن عصفور الدهشة،
أعني امرأة كالومضة،
تلتفُّ بسروال عشبيّي ،
تعبر فيفيض الشارع بالزعتر والحنطة،
تنظر فترقّ الفرس الحرادنة،
أو تهتاج الريح الغضبانة،
من منكن نساء مدينتنا تعرف هذا الظلَّ الأخضر،
تخبر امرأة النهر الليليَّة ،
امرأة الشجر المقصوف ،
وأنثى الرعد الملهوف ،
تناغمّ في خصريها وجعي وغنائي
منّ تعرفها منكن؟
فتلك عريشة صيفي،
مهرة أسفاري الدوريَّة ،
أعني بستاني الأول،
أعني من كانت تشرع نهديها في ملكوت الجمهوريَّة ،
تمنح قبلتها للريح،
وتأخذ زينتها في الأحياء الشعبيَّة ،
وخبّأت بسرَّتها ستَّة أقمار،
وقرنفلة عن عين العسس،
وهرَّبت حنيني في شكل زجاجة خمر،
وقصاصات،
وبعثت لها في السرَّ
قبيل رحيل النهر:
تعالي يا سيّدة الشهب الورديّة،
نستأجر بيتا في الأدوار السفلي،
ونغيب معا زمنا،
ننجب فيه لشيخوختنا القادمة صبيا،
يا سيدتي أين تقود الهجرة،
نفذت أوراق السنة الميلادية،
وأنا أبحث عن تلك الظبية،
لكن سيّدتي الوردية ذهبت،
فأحلّفكن الآن ،
أحلّفكن صبايا هذا الوطن القاتل،
أن تنقلن إلى سيدتي ولعي
أن تبدأن الرقص معي .
(2)
تسَّاقط بين يديك ثمار البلوط،
ولا تتسع البريّة لصراخي
أعرف سيدتي :
هذا الاستاد المشتعل،
الفتيات المزدهيات بزركشة الأيام،
ونضرة هذا التفاح المتألق فوق تلال النرجس ،
أعبر لمساءات شوارعك الموَّاجة بالألوان..
لأعمدة الضوء الوهّاجة عبر مرايا السيقان،
الموَّارة بالغبطة،
والتشكيل الرومانتيكيَّ الفاتن،
أهبط متشحا بالأسرار العشبيّة،
وغموض التكوين النابع من شال المغرب،
في هذي العفويّة،
في موسيقى الأشياء،
ورقة هذا المطر الناعم،
أهبط مثل نبيٍّ ، أو صعلوك ,
وأعدُّ ضلوعي
خشية أن أفقد في هذي الزحمة،
وهج الكلمة،
خشية أن أفقد سارا
فلمن هذا الحفل يبث أغانيه،
لمن هذا التصريح الثوريُّ
لمن هذا البدويُّ
يروز يدي ؟
ولمن تشرع أبواب القلعة؟
فدعيني أحمل نخبك بين يديَّ،
وأذرع هذا الأستاد المشتعل ،
دعيني أشرب نخب البلجيكيَّ الطائر ،
وأعود قليلا لعذاباتي
فأنا هذا البلجيكيُّ،
أنا كوكبة القتلى الجوَّالين ،
رماد الموقد ، واللحم المشويُّ،
وليلكك النابض بمواعيد ، وأقمار خضراء،
بأسفار اللؤلؤ ،
وأغاني الحطَّابات القرويّات ،
وما نقرته الأطيار من الثمر الناضج،
عبر فصول الأرض،
أشمُّ عطاياك الآتية، وأشرع شبّاكي،
أتنفس وأوسوس،
وأحدّث عنك فينشرح الفقر ،
تهلّل قسمات الجوع نشيدا ..
فتعالي نقتسم اللقمة والنقمة ،
وتعالي مزمارا،
تلك طفولتنا السانحة لنا
تبرق عبر مرايا الطين،
دعيني أحمل نخبك بين يديَّ،
وأنفض ثوبي من تعب الاسبوع ،
سأدعوك إلى مائدة واحدة،
وأبيح لمن يفهمني أن يفهمني،
هل نشرب شيئا من ماء اللوز،
تعالي نتناول بعض القهوة،
نرشف هذا الوقت معا
وندور على دراجتنا النارية،
ها نحن وصلنا الوحدات،
أبيح لمن يفهمني أن يفهمني،
ليس يشال الوطن على جمل حتى أرتاح،
فلي ذاكرة تلتهب بأسراب طفولتها
لي زمن مفطور القلب،
ولي صحب ، وصنوبرة،
وسنابل تحترق ،
ولي هودجها العابر في هذا النفق المعتم ،
وأغاني صبيتها اليتم ،
لي هذا البرقوق الساطع في ليل جدائلها
والبرق اللامع في بيض شمائلها
لي بعد سكاكين الأهل دم ينفر كالجدول ،
لي ساحات أخرى ،
ومناديل تلوّح ،
أيتها الشرفات الممتدَّة ما بين محيط يجرح ،
وخليج ينعم في الاعياء،
كثير هذا
ها نحن وصلنا الوحدات ،
فيا سيّد هذي الآلام ترجّل ،
يا جسدي لا ترتجف الآن ،
أمامك أكثر من جبل ، وأمامك أهلك،
خذ من هذا الهرم فواكهك الحلميَّة ،
خذ زادك ومعادك ،
زوّد أضلاعك بشميم عرار الوحدات ،
فما بعد الليلة إلا سفر يتأهب للموت أو القيد ،
وقل يا ساحات المجد ،
رعاك الفقراء ..
وظلَّل غزلانك قمر الأحراش ،
لماذا يا قمر الأحباب تطل عليَّ حزينا ..
من شبَّاك غيومك ،
تزفر في السرَّ ،
تخبىء أثَّات نجومك.
ولماذا تتستَّر سيّدتي الورديَّة ،
في هذا الاكليل الشوكيَّ،
لماذا لا تخرج في ذعر الوعل إلى الشارع ،
قبل غياب الزمن العربيَّ،
أخاف على سيدتي أن تذبل في النوم ،
أخاف على سيدتي أن تهرم في الهمّ،
ويا سيدتي أقرأ كلمات السرَّ،
على أطراف قميصك فأخاف ..
يراني الصفصاف،
يعاتب ويكاتب ريح الشرق،
وجدوله الغائب غائب،
كيف أميل على هذا العمر،
أجيبي يا سيدة الوحدات،
فهل أعقد صلحا منفردا بين جدائل أمي البيضاء،
وبين المنفى الأبديّ!
هل أتنازل عن زمني العربيّ
عن صدرأبي المشقوق بحربين ،
وعن وجه حبيبي الحنطيّ
عن خصر الأيام الموصول بعمري الدمويّ؟
هذا فخ ينصب يا سيدة الوحدات،
لعصفوري الدوريُّ
أيتها الشرفات الممتدَّة ما بين محيط يجرح،
وخليد ينعم في الاعياء،
كثير هذا ،
وكثير يا زمني العربي
ها نحن وصلنا الوحدات،
سأتلو مزمور الأيام الملتهبة،
في هذا التجويف الصدريّ،
سأتلو من سورة هذا الطائر ما يتيسَّر لي،
من قرآن الهمَّ السريَّ،
وأعلن :
لا يملك تاريخي أطلالا لأنوح عليها ،
يملك هذا الألق المتفتّح كالنوّار ،
على شرفات منازل سارا،
فأنا موفدها العائد ،
ورسول مواجعها،
ها أنذا أتجول:
فرح في القلب،
وسكين في الشارع ، ومسدَّس ،
حلمَّ يجرأ في الإعلان عن الوقت ، ولا ييأس،
عنق يتطاول فوق ذراع الموت ، ولا يأنس،
إلا لوعول البحر ، وأسماك المتوسّط ،
في حلقات النفيّ.
فدعونا نلتحف بعشب الأرض قليلا،
في هذا الطقس القطبيّ
ودعونا نبحث في الصحراء إذن ،
عن وطن عربيّ
هذا الوطن الممتدُّ من الدمعة حتى الصفعة،
يتثاءب تحت عيون الدركيّ
فتعالي يا سيدة الوحدات،
تعالي ننسلُّ من الباب الخلفيّ
وندور على دراجتنا النارية،
إيذانا بالزمن العربيّ.