لا لا ليس هنا يهتفُ السَّقفُ المكحّلُ والصورُ معلقةً لتغطّيَ الجدران لا لتزيِّنها وأكداسُ الدخان تغطّي الصور «ليس هنا» تصرخ المغارة البكماءُ وتُقرقع الأكؤسُ الرخيصة والعيون المتعبة التي لا ترى حتى الدخان والأفواهُ التي لَتتثاءبُ بلا انقطاعٍ لولا ما في التثاؤب من جهد والأصابع التي جفَّت دِماها فتعلَّقت من قبل أن تصلَ الموائدَ كلّها تقول لكَ مناراتٍ على الشاطي مكبِّراتِ أصواتٍ تجوب الشوارعَ ضارباتٍ على الشيفرة «لا لا ليس هنا»، وتجلس قربكَ تنتظر لكنك تعود وتعود تركض، لا لأن المطرَ ينسابُ خلفَ أذنيكَ وعلى جانبَيْ أنفكَ وكان ليستنقعُ على رأسك لو أنه ألفى عليه شُعيراتٍ يرتاح بينها ولا لأن الأزقّةَ التي تركتْ حذاءكَ بلا نعلٍ طويلاتٌ يتعرّجنَ والبردَ يرسم حولَ عينيكَ هالتينِ من غير قداسة تركض لأنَّ البرغشَ بحاجةٍ للأسنّ والضريرَ للضرير عينانِ وبيتَ اليتيمِ الميتمُ تركض خشية أن تصل متأخراً بعدَ أن يُغلق بابُ السماء وتلقى اللافتةَ بارزةَ الحروف «ليس هنا»، وتجلس تنتظر وتسمع من كل صوب «لا ليس هنا»، وتقول لكل مَن حولكَ «لا لا ليس هنا»، ويجلسون ينتظرونَ وتجلس تنتظر وتركض لأنَّ هناكَ أرفاقَكَ أخصامك لا تعرف بعضاً وتتمنَّى ويتمنَّون لو لم تعرف الآخر يجمعكم معاً مَن خلتم جميعاً أنكم عرفتموه ثم غاب وخلّف على وجوهكم سيماءَ غيابه وترككم تنتظرون فتجلس معهم، تنتظر وتعدُّ الأيامَ لا على الأصابعِ على الآهاتِ على الطعناتِ على حرقات الدم والقلب والعصب وتقطع رؤاكَ الطويلةَ وتمتماتِكَ المبعثرة لتحدّق في الدخان السميك المؤذي متوقعاً في كلّ لحظة أن تستشفّ بين طيّاتِه حمامةً لسانَ نارٍ جديدينِ وحياةً ورجوعاً وافتداءَ وتنتظر أمسمّرُ الأبوابَ لو أستطيع أزرع العتبةَ بالشظايا أمزّق الرزنامةَ وألغي طلب الجرائد والحليب أربّط قدميّ خُطايَ للخلف طوال وأقطفُ في الدكن الخانقِ نجمةً نجمتين تبرقان فيّ كلمعٍ سنيٍّ فوق تلٍّ مقدسْ لو أستطيع لا قتطفتُها لاقتطفتُهما وأشحتُ عن سائر النجوم وأدرتُ للشمس ظهري والقمر ولما حسست بالأصابع بالعصا ولا طاردَ صراخي دميةً مكسورة ولا جيّشتُ لأقفز من المنفى ولا أقسمتُ ألاَّ أعرف التفَّاح بعد وأصغي لتقوّلات امرأة لو أستطيع قطفهما أكنتَهما، تظن، يا بلدي الضائعَ الذي أعود لسكناه في الأماسي ليلةً بعد ليلة؟ أكنتَهما، عهدَ البراءة الخليّة عهدَ التطلّع والخطو نحو الذَّرا عهدَ العطاء النازعِ الوحدةَ والضجر؟ لو أستطيع لو فحسبُ أستطيع أن أتيهَ من جديد في عتمتك الثريّة يا كحيلة الشعر حيث الوحدة أنسٌ والعزلة وصال أن أفيء إلى الخميلة أستظلُّ أملِّي العينين وأسكب قطراتٍ تجلو الخضرةَ تصفّيها أن أستعيد الثقة والحنوّ وأستجلب الطفلة والأخت والرفيق والرأسَ على كتفي والفم قلقاً يتنقّل واليدين فاجرتين فوق يديَّ تصلّيان؟ أسكّرُ بابي أتنكّر لمأملي وأسعى، أناملُ أنا لأقطف نجمتي نجمتيّ أقصقص أوراقيَ الماليةَ زرقاء وخضراء أبعثرها في كل جانب وأقبض بكلتا يديّ بأصابعي المتماسكة على ورقتين نصف باليتين تأباهما المصارف من بلادٍ عَفَتْ وتناستْها الجغرافيا بدَّد السكونَ صراخي فأقفلتَ في الليالي النوافذ، وعلا فوق جلبة المنادين فتسلّلتَ بين العربات ألاحقكَ أبداً بدعائي أكرّره بدون رتابة وماذا عليّ إن خرقتُ طبلتيك ولم تُبقِ ما لم تخرقه فيّ؟ وحدَكَ تسطيعُ وحدك فآتيك وحدك بالسؤال الكبير الأخير لن أفتح فمي لن أعفّر أذنيك بعده أو ركبتيَّ كنتَ كلما تآمر عليك وعليَّ صحبي وحشدوا الدلائل من كل جنب وقرُها هدّني لولاكَ هشّم الأناملَ الولهى المتقربطة بك واستهزؤوا «وأنت غارقٌ بيمّ الكوارث والإخفاق أين المحبّ، أجبتَ تُسرّ لي، تقوّض الشواهقَ التي ابتنوا «أتحبكَ الحبَّ الذي ترى في العواصف وفي الصَّبا يقفر فوق السدود يكبو ويستيقظ مفتّحَ واسعَ العينين أبداً يسربلكَ ويحميك ويستلقي بحضنك دائمًا فذّاً بدوامة اللادوام وأعجزُ، تظنّ، أن أحبك مثلما تحبّك؟» أسّستَ صرحكَ الأضخم كما أسّست عيشاً ونتاجاً ومستقبلاً على هذا الحجر الوحيد أفما كان عليك أن تحرسه كما يحرسُ الصخرةُ مفاتيحكَ والحجرُ أحدٌ والمفاتيحُ كِثار؟ وإمّا انهار صرحُك عرضت عليّ أكواخك الأخرى، معطياً بدلَ أخذك أيها المعطي رذاذاً والآخذ سيولاً كأنك لا تدرك أن عطاءاتِكَ نفايا وقد خسرتُ صرحك وكيف أجيئك اليومَ، قل لي، وأين آتيك، ومرشدي الفريد دليلي إليك وإلى مغانيك والبراري تنكّر لي ولك وطمسَ الوجه القناع وحبها أنت تدري أنت تدري ما تبقّى من حبّها؟ وبماذا أردّ على المتآمرين عليكَ وعليّ، اليومَ، وبماذا تردّ؟ وبماذا أتقربطُ بك بعد وأناملي والأصابع اجتثَّت حتى الرسغ؟ أغثْني، وأَغثْكَ أنا على شفاً؟ لستُ على شفاً وحدي
توفيق عبدالله صايغ من مواليد سنة 1923م شاعر فلسطيني، ولد في جنوب سوريا وعاش في طبريا بفلسطين لفترة من الوقت، وحصل هو وعائلته على الهوية الفلسطينية. درس توفيق في الكلية ...