فجوة الأزمنة المتاحة لا حدّ لهذا الهجران، أزاولهُ كأنه عادةٌ مُزمنة، أثقلَ من فيلٍ هَرمٍ يتربّع في مَرْجَةٍ محصودةٍ بلا عشبة، وفي فجوة الأزمنة المتاحة لي أطلُّ بنصف وجهي لأشهدَ أيامي المدفوعة وراء القضبان تتمرَّغ في طين الإمكان مثل عصفور يتمَرْغَلُ وسط بركةٍ ضحلة. وها هي ذاكرتي التي لم تُرد أن تصير كيساً تلقى فيه الآلهة فضلاتها المتبقيَّة من عشائها الأخير، تؤرّث نارَها. ها هي تخطيطات دماغي المهزوزة في آخر الليل على صفحات دفتر أسود تركتهُ خلسةً تحت باب المحكمة حيثُ ينتظرُ الشاهدُ القرويُّ في قصَّة كافكا أن يفتحوا له الباب. أجلجلُ هذه المفاتيح لا لأنني سجان، بل لأنني أنا من يفتح الأبواب، ولا يعرف كيف يُغلقها، وينام. أبي في حراسة الأيّام لم تكن العَظمة، ولا الغُراب كانَ أبي، في حراسة الأيام يشربُ فنجان شايه الأوّل قبل الفجر، يلفّ سيجارته الأولى بظفْر إبهامه المتشظّي كرأس ثُومة. تحت نور الفجر المتدفّق من النافذة، كانَ حذاؤهُ الضخم ينعسُ مثل سُلحفاة زنجيّة. كان يُدخّن، يُحدّقُ في الجدار ويعرفُ أنّ جدراناً أخرى بانتظاره عندما يتركُ البيت ويُقابلُ وحوشَ النهار، وأنيابَها الحادّة. لا العَظمة، تلك التي تسبحُ في حَساء أيّامه كإصبع القدَر لا، ولا الحمامة التي عادت إليه بأخبار الطوَفان. الجثَّة عذَّبوا الجثة حتى طَلَع الفجر مُنهكًا وقام الديك يحتجّ. غرسوا في لحمها السنانير. جَلدوها بأسلاك الكهرباء علَّقوها من المروحة. عندما تعب الجلَّادون أخيرًا واستراحوا، حرّكت الجثة إصبعَها الصغير فتحت عينيها الجريحتين وتمتمت شيئًا. هل كانت تطلب ماءً؟ هل كانت تريدُ خبزًا يا تُرى؟ هل كانت تلعنهم أم تطالب بالمزيد؟ ماذا كانت الجثّة تريد. يوم ينقصهُ اليَقين وجَعُ الأيامِ هذا، ما تبقَّى من علائم الطريق، أين تدلُّ، من الدليل.. أتركُ الأخبار، زُبالة الأحداث، على صفحة الجريدة وأخرجُ إلى باحة البيت حيثُ زَرعت امرأتي أزهارها الرائعة: الأقحوان، النرجس، السوسن، عبّاد الشمس. أصابعها الخضراء ملأت فضاء الحديقة بأحلامها، والمعجزةُ هيَ هيَ: خريفٌ لعُشبهِ خضرتهُ السريَّة، خريفي الذي يسوقني كما يشاءُ الزمنُ المضمَرُ في حَتفي. عندما تكفُّ الريحُ عن بثّ شكواها وعزفِ مَراثيها المَوَّاءِ على أوتارِ السياجِ أبدأ مَشيتي المسائية بين الدروب المُشجَّرة خلفَ البيت: هذه الغابةُ الصغيرةُ حيثُ تشطأُ أزهارها أجهل أسماءَها وتزحفُ بزّاقاتٌ ذاهلةٌ على المماشي في أبدية بطئها، بعد المطر. وحينَ أرجعُ أدراجي بعد ساعة تكون قطعتْ مسافةً أقصرَ من خطوتي الواحِدة. أعرفُ هذا من إفرازاتها الفضيَّة المتعرِّجة في نُقاطٍ هندسيَّة التَقطُّرِ على حجارة الممشى. سماءٌ محشوةٌ رماداً، أشجارٌ أغصانُها مُثقلةٌ بأقماع الندى الموشكةِ دوماً على السقوط، أوراقها تحت حذائي سجّادةٌ رطبةٌ تنخَضُّ كإسفنجة. يومٌ للجهالةِ، لللاعُرفان لعُرفانِ أنني لا أعرفُ شيئاً، يومٌ ينقصهُ حتَّى ظلُّ اليقين، هذا اليومُ المسَمَّرُ في تقويمِ عُمري على شكلِ صليبٍ لم يُصلَب عليه أحد.
سركون بولص شاعر عراقي من مواليد سنة 1944م ، في بلدة الحبانية بالعراق، انتقل في سن الثالثة عشر الى كركوك،وبدء
كتابة الشعر وشكل مع مجموعه من الشعراء((جماعة كركوك))، نشرت له في ...